الاثنين، 24 أغسطس 2015

اتفاق جنوب السودان.. إعادة تجريب الوصفة الفاشلة (2-2)

بقلم: خالد التيجاني النور
لم تكن وساطة إيقاد لإيقاف الحرب في جنوب السودان بدعاً في هذا، فقد أعادت إنتاج خيبات التفاوض في اتفاقية السلام الشامل بحذافيرها، وهي اتفاقية لو ثبتت نجاعتها لما طرأ الاحتياج مجدداً للتفاوض، للمفارقة، بين وسطاء كان حتى وقت قريب يجلسون على طاولة واحدة يردّدون الحجج نفسها لا في مواجهة خصم أصبح اليوم وسيطاً وتحوّلوا هم إلى فرقاء متحاربين.

تردّد الجنرال سلفا كير في قبول وثيقة اتفاقية أديس أبابا بالأمس لأنها تنشئ واقعاً يقوم على اقتسام سلطته المطلقة مع خصومه، وهو يفضّل أن تبقى الحرب مستعرة، إن أمكن، على أن يرى نفسه متنازلاً لهم، فجوهر التسوية المعروضة يقوم على النسق نفسه الذي جرى على نحو أو آخر في اتفاقية نيفاشا للسلام الشامل، فقد فَرضت عليه بنود اتفاق قسمة السلطة التنازل عن 47% من مناصب الحكومة المركزية، وضمنت له الاحتفاظ بـ 53% من المناصب "كانت 52% للمؤتمر الوطني في نيفاشا"، وخصّصت للمتمرّدين بزعامة الدكتور رياك مشار ثلث مقاعد الحكومة بنسبة 33% "كانت نسبة 28% للحركة الشعبية في اتفاقية نيفاشا"، وقسّمت الـ 14% المتبقية بين جماعة المعتقلين بقيادة باقان أموم، وبقية القوى السياسية "كانت 20% للقوى السياسية في اتفاق نيفاشا".

أما على صعيد الحكم الإقليمي، فقد كفلت اتفاقية أديس أبابا استمرار سيطرة الحكومة المركزية على الولايات السبع التي تحكمها حالياً مع التنازل عن نسبة 15% في كل حكومة كل ولاية لجماعة المتمرّدين بقيادة مشار، واحتفظت الاتفاقية لجماعة مشار بشبه سيطرة على الولايات الثلاث الأخرى، الوحدة وأعالي النيل النفطيتين، ووولاية جونقلي، وحسب الاتفاق خصّصت للحكومة المركزية 46% من المقاعد، و40% للمتمرّدين، و7% لجماعة لمعتقلين، و7% للقوى السياسية الأخرى، واحتفظت الاتفاقية لجماعة المتمرّدين بتسمية حاكمي الولايتين النفطيتين، الوحدة وأعالي النيل، وتركت للحكومة المركزية تسمية حاكم جونقلي.

وعلى صعيد البرلمان الذي يضم 325 عضواً تم انتخابهم في العام 2010، وجرى التمديد لهم حتى العام 2018، تزامناً مع التمديد لولاية الرئيس سلفا المنتهية في هذا العام، فقد أقرّت الاتفاقية استعادة البرلمانيين المنضمّين للتمرّد لمقاعدهم، مع إعطاء الحق لجماعة مشار بتسمية 50 عضواً إضافياً في البرلمان، وواحد لجماعة المعتقلين، و17 عضواً للقوى السياسية الأخرى.

وعلى صعيد الترتيبات الأمنية تضمّنت الاتفاقية إخلاء محيط جوبا كعاصمة قومية من الوجود العسكري لأي من الطرفين على مسافة 25 كيلومتراً، وإسناد مهمة الأمن فيها لقوة مشتركة من دول إيقاد ومن بعثة الأمم المتحدة لجنوب السودان لمدة 30 شهراً هي فترة انتقالية قبل إجراء الانتخابات.

تلك إذن هي البنود المهمة في اتفاقية أديس أبابا العالقة حتى الآن، ومن سياقها تبدو واضحة الأسباب التي دعت الرئيس سلفا كير للتحفظ عليها، وخروج حليفه الرئيس اليوغندي موسيفني غاضباً لأنها لم تضع في الاعتبار استدراكات حاول إدخالها عليها في قمة عقدها في كمبالا الأسبوع الماضي، اعتبرها المتمرّدون محاولة لتعزيز موقف الرئيس سلفا.

ولعل أهم مغزى لهذا الاتفاق تجريد سلفا كير من احتكاره لشرعية الحكم في جنوب السودان التي تمسّك بها منذ انتخابات العام 2010 قبيل استقلال الجنوب، فصفقة اقتسام السلطة والثروة تعني بالضرورة أيضاً اقتسام الشرعية، وبالتالي نزع ورقة ضغط مهمة بيده كان يوظفها في اكتساب الحلفاء وتوزيع الامتيازات، وهو ما يقلل فرص المناورة بيده، وبصفة خاصة الترتيبات الأمنية التي تجرّده من فرض سيطرته، بمعاونة القوات اليوغندية على جوبا مركز الحكم خلال الفترة الانتقالية الممتدة لعامين ونصف العام وهو ما يجعله حاكماً بلا أنياب وعرضة سهلة للضغوط من الأطرف الكافة داخلياً وخارجياً. خاصة في ظل إنهاء سيطرة قوات موسيفني التي ظلت سنده الرئيس منذ اندلاع القتال.

والأمر نفسه ينسحب على صيغة اقتسام السلطة في ولايتي أعالي النيل والوحدة النفطيتين اللتين يسيطر عليهما المتمرّدون فعلياً، وهو ما يعني أن يد الرئيس سلفا لن تكون مطلقة في حصد عائدات النفط التي تشكل 98% من موارد حكومة جنوب السودان.

وثمّة جوانب أكثر تأثيراً لم تتعرّض لها الاتفاقية منقوصة التوقيع، وهي معالجة انعكاس الصراع الدموي على السلطة في جنوب السودان على النسيج الاجتماعي في الدولة الوليدة، ذلك أن طبيعة التركيبة القبلية كقاعدة أساسية للأطراف المتصارعة نقلت النزاع من إطاره النخبوي الفوقي إلى الجذور الاجتماعية حيث تمّت "قبلنة" غير مسبوقة للصراع بمحمولات ثأرات عميقة، وهو ما يعني أن محاولة الوسطاء إجراء مصالحات فوقية لم تنفذ إلى الواقع الاجتماعي المعقّد والمحتقن لن تقود إلى تحقيق سلام حقيقي قادر على الاستدامة، وهو ما يجعل اتفاقية أديس أبابا جهداً سطحياً لا يقدّم حلولاً واقعية لأزمة أكثر تعقيداً مما يمكن حلها بفرض الإنذرات والتهديد بالعقوبات.

من المؤكد أنه يقع على عاتق الولايات المتحدة مسؤولية كبيرة فيما آلت إليه تعقيدات الأوضاع سواء في جنوب السودان أو شماله جرّاء تشجيع وتسريع التقسيم كعلاج باتر ناجع دون وعي كاف بعواقبه الإنسانية الباهظة وكلفته الدموية، وللأسف هذه هي الوصفة نفسها التي تحاول دائماً تسويقها في مناطق صراع أخرى في العالم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق