الأحد، 9 أكتوبر 2016

العفو الدولية ودارفور.. تحريض بغياب الأدلة

منذ إندلاع الصراع في دارفور في فبراير 2003، سعت عدد من المنظمات ومجموعات الضغط، أبرزها منظمة العفو الدولية، بصورة حثيثة إلى تجريم الحكومة السودانية، وتحريض المجتمع الدولي ومجلس الأمن لاصدار قرارات تدينها. فيما ظلت تغض الطرف – شأنها شأن الولايات المتحدة وبعض الدول الأوربية- عن الإنتهاكات الجسيمة التي قام بها هؤلاء المتمردين ضد المدنيين، وهو ما شجعهم على توسيع دائرة إنتهاكاتهم وإستمرار الصراع في دارفور لأكثر من عشرة أعوام.
وقد سارت اتجاهات الأوضاع في دارفور نحو التحسن التدريجي، بفضل الخطوات التي اتخذها السودان بمعاونة الدول الصديقة لإحلال السلام والإستقرار، فيما استمرت محاولات الحركات المتمردة لاستجماع قواتها لمعاودة الهجوم على القرى والنقاط العسكرية، قبل ان تقوم الحكومة بالتصدي لها ودحرها بصورة نهائية مناطق جبل مرة، وهو ما أسهم في عودة الهدوء لهذه المناطق لأول مرة منذ اندلاع المشكلة في دارفور.
وفي الوقت الذي أعلن فيه السودان رسميا انتهاء الصراع في دارفور، خرجت منظمة العفو الدولية بتقرير أدعت فيه استخدام الحكومة لأسلحة كيميائية في عملياتها العسكرية في دارفور. وقالت المنظمة إن القوات السودانية استخدمت “ما خلص خبيران في المنظمة إلى أنه غاز يتسبب في الإصابة ببثور وتقرحات”.
وتوالت ردود الأفعال الرافضة للتقرير حيث اعتبرته الحكومة بأنه “مجرد دعاوى مغرضة”. وقالت وزارة الخارجية السودانية إنه مصطنع، واحتشد بمزاعم خاوية وجاء بلا معلومات وبلا أدلة. مشيراً إلى أن منظمة حظر الأسلحة الكيمائية أكدت ذلك بعد النظر في محتوى التقرير وفي رد حكومة السودان عليه.
واعتبر الخارجية الاتهامات محاولة للفت النظر عن ما تحقق من سلام وأمن واستقرار في دارفور، وما يجري من حوار وطني، وسعي مخل لإنهاء النزاعات نهائياً في دارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان.
وشددت الخارجية على أن السودان عضو ملتزم بحكم أنه دولة طرف في المعاهدة الدولية لحظر إنتاج واستخدام الأسلحة الكيميائية منذ عام 1998 وأنه لم يكن يوما في وضع يسمح له بإنتاج أو امتلاك ذلك النوع من الأسلحة .
بدوره نفى الجيش السوداني تقرير منظمة العفو، وقال المتحدث باسم القوات المسلحة أحمد الشامي إن ما جاء فى التقرير غير صحيح، ونبه إلى وجود أوامر واضحة لقواتهم بعدم استهداف المتمردين إذا دخلوا إلى إحدى القرى أو أي منطقة يسكنها مدنيون. وأبان أن الأوضاع على الأرض لا تحتاج إلى قصف مكثف ولم يعد هناك وجود حقيقي للمتمردين، وقال إن العمليات العسكرية الرئيسية في دارفور انتهت والحكومة منخرطة حاليا في محادثات مع المتمردين.
وتبدو الملاحظة الأولية على بيان المنظمة أنه لا يستند إلى أي أدلة علمية وطبية حول إستخدام الجيش السوداني لأسلحة كيميائية، ويمكن إعتبارها محض إنطباعات حول مشاهد لبعض جرحى العمليات في دارفور، وهو ما يؤكده بيان المنظمة نفسه الذي ذكرت فيه أنها إعتمدت على شهادات من عشرات الشهود عبر “الإتصال الهاتفي”، بجانب تحليل الصور بواسطة خبراء، وهي بطبيعة الحال دلائل غير مقنعة لتأسيس إتهامات خطيرة تجاه السودان بحجم إستخدام أسلحة محرمة.
ومن المعروف أن السودان لم يسع في تاريخه لامتلاك أسلحة كيميائية ليستخدمها في العمليات العسكرية طوال الحروب التي خاضها سواء في جنوب السودان أو دارفور. وتعتبر حادثة قصف مصنع الشفاء بالخرطوم في أغسطس 1998 هي المرة الوحيدة التي حاولت فيها جهة خارجية –وهي الولايات المتحدة في عهد الرئيس كلينتون- محاولة إدعاء تصنيع السودان لأسلحة محرمة، لكن تبين بمرور الوقت أن القصف تم بناءً على معلومات استخباراتية مغلوطة، وثبت ذلك بعد أخذ عينات من تربة المصنع وتحليلها. وقد خرجت تقارير أمريكية شبه رسمية أشارت إلى هذا الخطأ، ولكن رغم ذلك رفضت أمريكا الاعتذار كما فعلت مع دول أخرى.
وتعتبر لجنة الخبراء التي تتبع للأمم المتحدة منشأة بموجب القرار (1591) وهي معنية بمتابعة تنفيذ القرار الأممي، وضمن إختصاصاتها رصد إستخدام الأسلحة المحرمة دولياً في دارفور و”اتخاذ التدابير اللازمة لمنع تزويد الكيانات العاملة في دارفور بالأسلحة والمواد ذات الصلة من جميع الأنواع”. ولم يشير أي تقرير للجنة منذ إنشائها لإستخدام السودان لأسلحة كيميائية أو محرمة دولياً، ذلك رغم أن السودان لديه تحفظات على أداء هذه اللجنة ويعتبر تقاريرها سالبة وتدعم توجهات الحركات المتمردة.
أيضاً ظلت المنظمات الدولية ووكالات الأمم المتحدة متواجدة في دارفور، وخاصة منطقة جبل مرة، منذ بداية العام الحالي لتقديم المساعدات للمتأثرين، ولم يصدر من هذه المنظمات ما يشير إلى إستخدام مثل هذا النوع من الأسلحة. وزارت العديد من البعثات الإعلامية قرى ومناطق جبل مرة في الآونة الأخيرة والتقت بالمواطنين وتفقدت المرافق العامة ولم تتلق أي شكاوي أو تبدر منها ملاحظات تدعم ما ذهبت إليه منظمة العفو الدولية التي أوردت في تقريرها أن 179 قرية تعرضت لهجمات منها 29 على الأقل تعرضت لهجمات باسلحة كيميائية. ولا يستقيم أن تدعى المنظمة أن هذا العدد الكبير من القرى قد تعرض لهجمات دون أن ترصده اللجنة الأممية والمنظمات الدولية  أو البعثات التي زارت جبل مرة.
ما أورده بيان المنظمة ينافي مع بذلته الحكومة السودانية من مجهودات مقدرة في تقديم المساعدات الإنسانية لمواطنيها النازحين من جبل مرة، وتهيئة الأجواء فيما بعد لعودتهم إلى مناطقهم، فضلا عن سماح الحكومة السودانية للوكالات الإنسانية الدولية بتنفيذ مسوحات مشتركة بالمناطق المتضررة بجبل مرة لتقديم العون الإنساني.
وفي ظل ضآلة الأدلة المقدمة من العفو الدولية، كان لابد من البحث عن دوافع إصدار مثل التقرير في هذا التوقيت. فقد جاء تقرير منظمة العفو متزامناً مع إنعقاد دورة مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بجنيف، وهو ما يشير بوضوح إلى إلى المنظمة هدفت لزيادة الضغوط على السودان والتأثير على مواقف المجموعات المختلفة داخل المجلس، خاصة تلك التي كانت تدفع باتجاه وضع السودان في البند الرابع، وتستخدم في سبيل ذلك، حشد تظاهري لمنظمات وأحزاب وكيانات معارضة للحكومة السودانية، وهو منهج سياسي غير أخلاقي يتدثر بغطاء حقوق الإنسان، كما يصفه بعض الخبراء.
لكن مرت كثير من المياه تحت جسور الجهات المناهضة للسودان، حيث أصدر مجلس حقوق الإنسان يوم الجمعة في جنيف بالإجماع، مشروع قرار تبنته المجموعة الأفريقية يبقي الخرطوم تحت البند العاشر الخاص بتقديم الدعم الفني وبناء القدرات، وتجديد ولاية الخبير المستقل لحقوق الإنسان بالسودان لعام واحد.
وسار القرار باتجاه معاكس لما كانت تصبو إليه منظمة العفو، فقد رحب بإعلان الحكومة السودانية إنهاء العمليات في دارفور في يونيو الماضي، حاثاً الأطراف على توقيع اتفاق لوقف دائم لإطلاق النار وتهيئة جو ملائم له يعين على تحقيق سلام دائم تحترمه جميع الأطراف.
ولا يبدو أن محاولات منظمة العفو الدولية للتحريض من جديد ضد الحكومة السودانية ستجد آذانا صاغية، فقد قطعت عملية السلام في دارفور أشواطاً بعيدة، كما أن الوقائع على الأرض تجعل روايتها هذه المرة غير متماسكة، خاصة وسط الدارفوريين الذين ودعوا مرارات الحرب وباتوا يتوقون إلى مرحلة جديدة يسود فيها السلام مناطقهم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق