الاثنين، 28 سبتمبر 2015

السودان ومهارة ترويض الأعداء!

كان أمراً لافتاً للغاية ويحمل مغزى دبلوماسياً تاريخياً كبيراً أن يصل الرئيس اليوغندي (يوري موسيفيني) إلى العاصمة السودانية الخرطوم ويجري محادثات إستراتيجية مهمة مع نظيره السوداني استمرت ليومين كاملين. إذ المعروف أن الرئيس موسيفيني ظل على داء سافر ومستحكم مع الخرطوم لما يقارب الربع قرن، جرب خلالها كافة صنوف الكيد والعداء والعمل المعادي الصريح ضد السودان وأشهرت مشاركته البالغة اللؤم فيما عرف بـ(الأمطار الغزيرة) إبان الحرب التي كانت تخوضها الحركة الشعبية بقيادة الراحل قرنق منتصف تسعينات القرن الماضي.
وكما هو معروف فإن موسيفيني لم يكتف حينها بالدفع بقوات يوغندية بعتاد عسكري لمهاجمة السودان ولكنه حتى إلى عهد قريب بل ربما ما يزال يدعم ويستضيف قادة الحركات المسلحة (الجبهة الثورية) على أرض بلاده وهي الناشطة في حرب ضروس ضد الخرطوم، ومع أن الحدود بين يوغندا والسودان قد ذابت عملياً إثر انفصال جنوب السودان وابتعدت الدولتان عن بعضهما تماماً، إلا أن الرئيس موسيفيني ما يزال يناصب السودان العداء سواء عن طريق استمراره في دعم العمل المسلح ضد الخرطوم وتوفير الدعم والإيواء؛ أو بسبب تدخله السافر وغير المشروع في الصراع الجنوبي الجنوبي حتى أصبح جزءاً من المعادلة في دولة الجنوب وربما معوق أساسي لإمكانية حل الأزمة الجنوبية.
رجل بكل هذه المثالب، فتحت له الخرطوم أحضانها الدبلوماسية الواسعة ووفرت له البساط الأحمر ورسمت له على الوجوه ابتسامة سودانية ودودة، لا لشيء سوى لأن الرجل جار سابق، وجار لجار مهم بالنسبة للسودان. كما أن السودان على أية حال ليست له صفة الفجور في الخصومة ولا يعول على العداء الصارخ في علاقات الجوار، حيث سبق للسودان بذات الروح والمهارة أن عمل على ترويض أعداء سابقين في جواره الإقليمي مثل ارتريا وتشاد اللتين انتهى بهما المطاف بعلاقات حسن جوار نموذجية صارت مضرباً للمثل في المنطقة والإقليم.
السودان وهو يجلس إلى الرئيس موسيفيني كان قادراً على التعامل بواقعية مع مستجدات الأوضاع الجديدة، فهو يتطلع إلى علاقات جوار إقليمية تتسم بروح التعاون والود والإخاء والمحافظة على أمن واستقرار المنطقة ولهذا فإن حرص السودان على قبول المبادرة اليوغندية بإصلاح وترميم علاقات الدولتين، يأتي في سياق مؤشرات إستراتيجية عديدة:
أولاً، احتفاظ السودان بعلاقات عادية على الأقل خالية من التوتر والعداء المتبادل يوفر مناخاً ملائماً لدول الإقليم لمعالجة العديد من التعقيدات التي عرفها الإقليم منذ سنوات وهذه النقطة مهمة للغاية، خاصة إذا وضعنا في الاعتبار أن يوغندا بطريقة أو أخرى يمكن اعتبارها (محطة مهمة) للعديد من القوى الكبرى.
ثانياً،  في ظل حرص السودان على تأسيس علاقات تعاون مثمرة بينه وبين الدولة الوليدة (جنوب السودان) يقتضي بالمقابل -إن لم يكن بالضرورة- أن تكون علاقاته بدول جوار دولة الجنوب وفى مقدمتها يوغندا طبيعية ومثمرة أيضاً، فقد ثبت أن كمبالا على أية حال (مهتمة) للغاية بدولة جنوب السودان بغض النظر عن دوافعها في ذلك، إذ على السودان أن يستصحب هذه الفرضية في تعامله مع الدولتين.
ثالثاً، ربما يفضي شعور كمبالا بأن الخرطوم ليست كما تظن بحق وبغير حق، إلى خلق انطباع جديدة أفضل فكمبالا لديها شعور (غير واقعي) بأن الخرطوم تضم متطرفين إسلاميين وتسعى لنشر أيدلوجية إسلامية في المنطقة! وهي فرضية أبعد ما تكون عن حقائق الواقع ويكفي أن واشنطن تأكدت من عدم صحتها!
رابعاً، حاجة كمبالا إلى الخرطوم وتعاونها الثنائي تتبدى أكثر وتزداد في ظل تنامي وتصاعد العلاقات الإستراتيجية المتطورة بين السودان واثيوبيا، إذ ليس سراً أن يوغندا (تضع ألف حساب) لإثيوبيا ذلكم المارد الإفريقي الضخم الصاعد إلى القمة بقوة وبسرعة ويتمتع بعلاقات قوية بالولايات المتحدة.
يوغندا تدرك أن قوة ومتانة العلاقة بين السودان واثيوبيا تشكل (خطراً) بدرجة ما على يوغندا ونفوذها الإقليمي، وهذا ربما كان أحد أهم دوافع كمبالا لمعاودة التعامل (بإحترام تام) مع السودان.
وعلى كل فإن يوغندا و طالما هي التي بادرت، فإن عليها أن تكون على مستوى المصداقية المطلوبة، كما أن السودان الذي أجاد من  قبل ترويض العديد من دول المنطقة ذات العداء السافر لن يعجزه الأمر نفسه مع يوغندا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق