الثلاثاء، 9 مايو 2017

أبيي..الحقيقة الكاملة (1)

أبيي: عبد الله عبد الرحيم
بمجرد ذكر اسم أو كلمة (أبيي) ، يتبادر الى الذهن ذلك الوضع المأساوي الخطير الذي لازال صداه يعشعش في الدواخل بين قبائل المسيرية وقبائل الدينكا وتحديداً «نوك» ، ذات الوضع الخاص.
فقد شهدت أبيي أحداثاً قال أهلها إن التاريخ لن يستطيع محيها او إزالتها بكل تلك السهولة التي تعتمر أخيلة بعض الناظرين للأمر بكل تلك السهولة.  ولكن أشياء كثيرة أزالت كل تلك الصور المخيفة التي تدخل للذاكرة مباشرة دون استئذان، وأنا أتلقى دعوة من الأخ نواي إسماعيل الضو مدير مؤسسة عمليات التنمية بغرض تدشين مشروعات خدمية كبرى هناك ذات «مغزى سياسي» وآخر اجتماعي، بغرض دعم الاستقرار والسلام الاجتماعي بين المكونات القبلية بالمنطقة مسيرية ودينكا نوك. حقيقة لم أتردد رغم الصورة الغاتمة للأوضاع هناك، ورغم صعوبة المهمة التي تواجه بكل الاحتمالات من قتل أو سلب ونهب أو اختطاف، لجهة أن المنطقة غير آمنة وغير مستقرة البتة.
البداية
حملت الدعوة التي وجهت لي ودلفت بها إلى مكتب السيد مدير التحرير الأستاذ كمال عوض وأنا أحدثه عن الدعوة المهمة التي وصلتني من الأستاذ نواي لزيارة أبيي لتغطية الأحداث عن قرب خاصة وأن (الإنتباهة) واحدة من الصحف الأكثر اهتماماً بشأن المدينة ، بل المحلية التي أصبحت من أكثر ما يشغلها تحريرياً فهي بمثابة الجنين الذي لم ير النور للصحيفة الأكثر انتشاراً وتوزيعاً. وحقيقة فاجأني الأستاذ كمال بترحيب حار أن أكون ضمن أفراد ذلك الوفد ولم يبد تخوفاً كبيراً من أن تكون الصحيفة حضوراً في ذلك المحفل والمشهد التاريخي.  كل هذا وذاك خلق في داخلي تحدياً عميقاً بضرورة إنجاز المهمة الصحافية وقوفاً على ما يجري هناك.  هذا الأمر دفعني للتقدم خطوة لإنجاز المهمة برفقة الوفد الصحافي الذي يتزعمه الطيب محمد خير الصحافي بالزميلة (الصيحة) وسيف جامع من (المجهر) وبدرالدين صلاح بالإضافة لوفد التلفزيون والإذاعة القوميين، دون أن أجد تحفظاً من جانبهم. السيد مدير التحرير لن ينسى أهمية الصحيفة وهي تود وضع قدمها هناك لأول مرة في تاريخها رغم أنها أول من حمل هم منطقة أبيي المفصلية، وتحديداً القضايا التي طرفها المفوضية المسؤولة عن أمر الإقليم.
سر القوة العسكرية
الوفد يتكون من خمس سيارات متوزعة بدقة لحمل كل أناس في الوفد من أماكن الإقامة إن كانت في بحري أو الخرطوم ، ام درمان. خرجت بنا السيارات الفارهة من الخرطوم في تمام الخامسة صباحاً بينما تأخرنا نحن عن ذلك الميعاد بساعتين ولكن مشيئة الله جعلتنا نلتقي جميعاً عند كافتيريا خارج مدينة كوستي. وهي إحدى الكافتيريات التي يقصدها المسافرون بغرض الراحة أو تناول الوجبات الغذائية.  حقيقة بداية السفر المتعثرة هذه جعلتنا نضع صور ذهنية مختلفة عن الرحلة التي نحن بصددها. ولكن تسهيل أمر مرورنا من قبل سلطات المرور التي بدت مقتنعة بالسرعة التي سارت بها سياراتنا لبلوغ المحطات المتفق بشأنها بغرض الراحة ومن ثم استئناف السفر، وهي تقرأ أمر التحرك الخاص بكل مركبة إلى أن وصلنا مدينة الفولة ليلاً من يوم الجمعة الأخيرة من شهر أبريل المنصرم.  حقيقة وجدنا المدينة أكثر وداعة من ذي قبل، وقد زينت طرقها الإضاءات الكهربائية.  بتنا ليلتنا الأولى هناك كما أعد لنا من قبل الجهات المنظمة للرحلة.  وفي صباح اليوم التالي وهو السبت نوينا السفر صباحاً بعد أن تناولنا شاي الصباح بسوق الفولة بالقرب من الطلمبة الشهيرة وسط السوق. بيد أن منسقي الرحلة وصلتهم توجيهات بضرورة أن تمضي معنا عربة حراسة مسلحة من قبل القوات المسلحة بالفولة نفسها، ومن هنا للحقيقة أحسست بأن الرحلة بدأت لتوها. حيث عربة اللاندكروزر المسلحة بدوشكا وسبعة أفراد مسلحين بأسلحة مختلفة.  وفي حديث جانبي لي مع أحد أفراد القوة المسلحة عن سر هذا التخوف أفادني بأن الطريق صراحة آمن إلا في بعض المناطق منه حيث توجد عصابات متفلتة مسلحة بأسلحة حديثة وهي تمتطي سيارات تشبه السيارات التي تستغلها السلطات الأمنية في بعض الأوقات.  ورغم أن إحدى سيارات الوفد تعطلت في الطريق قبالة المجلد ولكن فضلنا مواصلة الرحلة على أن تبقى القوة العسكرية في حماية تلك العربة حتى يأتيها الغيار لصيانة العطب من المجلد.
 الطريق من المجلد الى أبيي
عقب خروجنا من مدينة المجلد لم نجد ما يصعب مهمتنا إطلاقاً من الصور التي ظلت تعشعش في أذهاننا ونحن نتجاوز بعد كل ساعة زمنية تحديداً محطة بترولية منشأة حديثاً أو أخرى توقف العمل بها وبين كل تلك المحطات ظلت المعسكرات ترسم حالة من الهدوء والأمن هناك، حيث المحطات التي ظلت ترابط على الطريق الترابي ذو الطبيعة القاسية على السيارات الحديثة كالتي كنا نستغلها في سفرنا،  ولكن حُسن التعامل والمقابلة بباشة كان عنوان كل تلك النقاط العسكرية ولم نجد منها ما يشين لها أو يعطي صورة سلبية عن تلك القوات فمررنا بالعديد منها إلى أن وصلنا إلى معسكري (الستيب) و(دفرة) قبل أن نصل إلى منطقة الدائر حيث كانت إقامة الوفد. والدائر هذه هي إحدى المناطق التي يشار إليها في محلية أبيي التابعة لولاية غرب كردفان.  وتقع فيها أكبر قوة لليونسيفا ومعسكرها الرئيس جنوب المنطقة.
لم نجد طيلة الطريق من المجلد وحتى الدائر ما يؤكد تلك الصورة المخيفة عن المنطقة في وقت شكلت فيه ملامح (مراحات) البهائم وهي تغدو متحركة شمالاً بأبقارها وعجولها الصغيرة محمولة على ظهور الدواب المدربة على هذا السفر الطويل من أقصى الجنوب حيث (أمييت وجانقي) وغيرها، وكلها مناطق ذات مرعى خلاب جنوب مدينة أبيي، يُخليها رعاة المسيرية مع بداية نزول الأمطار في فصل الخريف للإقامة في شمال أبيي حيث تقل نسبة الأمطار قليلاً في مناطق (دفرة والستيب والدائر والرضايا ومكينيس) وغيرها من مسميات القرى والفرقان هناك، التي يعمرها رعاة القطعان خريفاً وهي تمثل الثروة الحيوانية الحقيقية للسودان.
انعدام السلطات الأمنية
حقيقة منطقة أبيي بالنسبة للداخل إليها لتوِّه يجد أن الإدارة الأهلية هي صاحبة الصوت الأعلى والأكبر حيث أن العمد والمشايخ والسلاطين دورهم يتعاظم كلما اتجهت جنوب مدينة أبيي التي في الحقيقة تعتبر خلطة سكانية غير معهودة. فالدينكا والمسيرية والداجو وبعض القبائل السودانية الأخرى من غرب السودان وغيره يعيشون في وئام وسلام تام. لا يوجد ما يهدم هذه الصورة غير بعض القضايا والمسائل التي سرعان ما تضع قيادات الإدارة الأهلية لها الحلول إن كانت بالدية أو السجن داخل مخافر قوات اليونيسيفا الإثيوبية وهي قد أبدت اندماجاً وجد ترحاباً من كل المقومات هناك. فقوات اليونيسيفا بحسب قائدها الذي استضافنا داخل مقرهم ليشرح لنا مهامها ومعايشتهم للواقع في المدينة التي شهدت صراعات إثنية وقبلية قاسية شكلها مصرع السلطان كوال أمام ناظريهم، إنه كيف بدأت تلك الصورة القديمة تتغير للأفضل بفضل صحوة بعض شباب القبيلتين الدينكا نوك والمسيرية التي سرعان ما توجت بإقامة سوق مشترك سمي بسوق (أنيت) وهي كلمة من قاموس دينكا نوك وتعني (الشيء الجيد). سوق أنييت أو سوق الزراف بحسب ما ينادي به من قبل بعض أبناء المسيرية يقع في المنطقة التي تفصل بين أبيي المدينة وبين الدائر جنوب منطقة الستيب في المنطقة الفاصلة بالقرب من الرقبة الزرقة المشار إليها في تقرير لاهاي المحكم بشأن المنطقة.  وللحقيقة كل هذه الأسماء تقع في الحدود شمال خط 1956م أي ما يؤكد بأنها سودانية لا لبس فيها.  ولا توجد سلطات مثل الشرطة التي يقع آخر معسكر لها أو نقطة حراسة وحماية لها شمال منطقة الدائر، وهذا الأمر جاء بناء على بروتوكول أبيي حسب اتفاقية السلام الموقعة في العام 2005  في نيفاشا حيث نص الاتفاق على أن تكون المنطقة (أبيي) منزوعة السلاح. ما دفع بالسلطات السودانية إلى سحب قواتها من المنطقة تنفيذاً للبرتوكول، الشيء الذي جعل سلطات القوات الإثيوبية أو ما يعرف باليونيسيفا أمراً طاغياً فهي لديها أكثر من خمسة مقرات ومحطات آخرها شمال الستيب في منطقة الدائر.
(الدائر) وحقيقة الأوضاع
للحقيقة كل المناطق التي تقع في تلك المنطقة المتنازع بشأنها بين السودان وجنوب السودان، تفتقر للعديد من الخدمات حيث غياب أقل مظاهر الصحة ، حيث لا مصادر للمياه الصحية ولا مراكز صحية ولا مدارس تعليمية مهيأة بصورة تجعلها أكثر انجذاباً، بينما نشطت بعض المنظمات الدولية كالفاو في تقديم بعض الخدمات في وقت نشطت فيه منظمات مثل منظمة (قلوبل) وهي سودانية في تقديم بعض الخدمات لسكان المنطقة مثل صيانة المدارس في (الرضايا) و(مكينيس) وإقامة مركز صحي في (الدائر). هذه هي الجهود التي قدمتها المنظمات في تلك البقعة ما يشير لحاجة أهلها للمزيد من الخدمات. وقد سعت مؤسسة عمليات التنمية وبعض المنظمات الوطنية التي سيرت هذه القافلة إلى تقديم المزيد من الخدمات الداعمة للاستقرار والسلام الاجتماعي في أكثر من عشر قرى وفريق وإقامة العديد من المحاضرات في التنمية البشرية وتعظيم حرمة الدماء في كل تلك المناطق وفق مشروع متكامل من قبل المنبر الوطني وتحسين مستوى المعيشة عبر مؤسسة عمليات التنمية، ما كان لها أثراً فعالاً وبالغاً في نفوس مواطني المنطقة الذين تجاوبوا معها بقوة وحضور دائم.  وقد شهدنا المطالبات المتكررة من مناطق لم تكن ضمن تغطية البرنامج ما يؤكد ضرورة توجيه مثل هذه الخدمات من قبل المنظمات المختلفة لتلك المناطق لتعود بقوة أكثر نفعاً ودعماً للاستقرار هناك.
السلم والاستقرار
يحكي لنا العمدة يحيى جماع عمدة قبائل المسيرية في تلك المنطقة عن بداية السلام الذي تحقق بعد الحرب التي اندلعت في العام 2008 و2013م حيث أكد إن بعض شباب المسيرية التقوا برعاة من قبائل دينكا نوك في مراعٍ للأبقار في الغابة شمال أبيي. وقال عندما رأى أبناء دينكا نوك رعاة المسيرية فروا إلا أن رعاة المسيرية أعطوهم الأمان وطلبوا منهم أن يعيشوا كلهم في أمان واستقرار وأن يرعوا بحرية تامة مع بعض.  ولكن لرعاة الدينكا موقف مغاير حيث لاتزال الثقة مفقودة في القبائل العربية وأبدوا توجساً من هذه الخطوة ولكنها بعد عدة لقاءات بخطابات تمت على ساق شجرة محددة توصل الجانبان لتكوين لجنة من الجانبين من عشرة أشخاص من كل جانب وبمعية اليونيسفا التي تعتبر رقيباً عاماً للأوضاع هناك تم تكوين سوق أنييت أو الزراف الذي يشكل نواة للاستقرار والتعايش السلمي بين الجانبين.  والداخل لسوق الزراق الذي يقع على بعد أميال قليلة من مدينة أبيي جنوباً يجد العنصر الجنوبي الغالب بينما تجد كل المحلات في السوق تتبع للمسيرية. ويعج السوق بالكثير من البضائع المتنوعة يرفد الدينكا السوق بالبهائم الماعز والضأن الجنوبي (القرج) وهي ذات الذيول القصيرة وهي في تركيبتها قصيرة الحجم ولا تشبه بهائم الشمال بجانب بعض البضائع الاستهلاكية في ظل ترد وضع العملة الجنوبية. بينما يرفد التجار الشماليون السوق ببضائع وللحقيقة أكثر فائدة وأهمية من تلك التي تأتينا من الجنوب. فلاحظنا وجوداً مكثفاً للذرة والدقيق (سين) و(سيقا) بكميات مقدرة وسكر كنانة وغيره بجانب الجازولين والبنزين. السوق يتعامل فيه غالبية بالعملة الجنوبية ولكن الجنيه السوداني يشكل حضوراً دائماً بجانب الدولار الأمريكي.
في الجزء الثاني
>  ما هو سر الشاب الجنوبي الذي دعاني للتفاكر حول عودة الجنوب للشمال؟
>  لماذا يحارب بعض أبناء المسيرية التقدم الذي طرأ على العلاقات مع دينكا نوك؟
> لماذا تمنع قوات اليونيسفا عبور الشماليين نحو أبيي المدينة؟
>  ماذا حدث للوفد الإعلامي والمنظامات في الطريق قبالة المجلد؟
>  كيف استقبل الناس (الإنتباهة) هناك؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق