الاثنين، 22 فبراير 2016

العلاقات السودانية الأمريكية.. تقاطع السياسة والمصالح

تقرير: إنعام عامر-
تفاصيل الملف المتشابكة بعض الشيء ربما بدت غير واضحة المعالم، جهود حثيثة يقودها رسميون في الخرطوم لإحداث انفراج في الملف ولو قليلاً، إلا أن إستراتيجية واشنطن تجاه الخرطوم تحكمها وتتحكم فيها أطراف عديدة ومصالح أمريكية، لذا تبدو هي الأخرى أكثر تعقيداً، والأمر برمته لايكاد يخرج من دائرة لغة المصالح العليا بالنسبة لواشنطن. بيد أن أطرها هذه المرة ربما وضعت وفق أطروحات جديدة وغير تقليدية.. مطالبات بتوقيعات على عريضة ظهرت على موقع البيت الأبيض وفق شروط يلزم اكتمالها استجابة واشنطن لرفع العقوبات عن البلاد.. في إطار زمني حدد بالشهر انتهى أجله أمس الأول ليصبح بعدها مجال المتوقع مفتوحاً على كل الاحتمالات.
وحسب القواعد المتبعة فإن البيت الأبيض يلزم نفسه بالرد على أي عريضة إذا اكتملت التوقيعات عليها خلال الفترة الزمنية المقررة، وتلزمه ذات القواعد على الرد على تلك العريضة خلال ستين يوماً من تأريخ انتهاء فترة التوقيعات كحد أقصى. إلا أن ما يدور في ثنايا هذا الملف الجديد، يجعل كل الأبواب مفتوحة من حيث مدى صدقيته وجدية الفاعلون نحوه.
ورغم أن وزارة الخارجية في الخرطوم أعلنت الأيام الماضية على لسان وزير الدولة عن زيارة مرتقبة لمدير هيئة المعونة الأمريكية إلى البلاد في إطار نشاط واسع تقوده وفود امريكية رفيعة الى البلاد الا ان هذا الحراك لا يميل مؤشره نحو انفراج محتمل في الملف.
وخارج تلك الحلبة، تبدو تحركات واشنطن بخصوص الملف محسوبة ودقيقة للغاية. فالتغيرات الكبيرة في الخارطة الجيوسياسية للمنطقة خلال الأشهر الماضية كفيلة بإعادة حسابات عديدة في إطار لغة المصالح. إذ لم يعد الشرق الأوسط بعد التغيرات الأخيرة كما عليه الآن. تغيرات كبيرة حدثت عقب (عاصفة الحزم) وشرق اوسط جديد قيد التشكل، وفي الأثناء حلف عربي كبير هو قيد التشكل أيضاً. ما دفع بالفاعلين الدوليين الى إعادة تهيأت المسرح الجيوسياسي للمنطقة بشكل جديد حددت أطرافه تسويات لقضايا إقليمية من بينها بالطبع اتفاقية واشنطن وطهران بشأن ملفها النووي. ما يعني موازنات جديدة في حسابات الجيوسياسة بعيداً هذه المرة عن الايديولوجيا. بالإضافة إلى فاعلية دور السودان وموقعه المؤثر والفاعل في قلب العالمين العربي والافريقي الذي تركز فيه القوة الدولية على منطقة القرن الافريقي واواسط افريقيا. ويبدو هنا ما خطته فيرونيكا الباحثة بجامعة نورث كارولينا والكاتبة بمجلة دراسة الصراعات التي تصدر عن مركز (GREGG) وهو مركز تخصص في دراسة المجتمعات والحرب. ليس بعيداً عن تلك الرؤية، إذ تقر بأهمية الوضع الجغرافي للسودان في إطاره العربي والافريقي. وتشير إلى انه رغم حالة العدائية والتوترات بين واشنطن والخرطوم فإن الحاجة إلى تعاون وتبادل مستمر في إطار القضاء على الارهاب الدولي وبناء السلام تبقى قائمة ولا يمكن التقليل منها او تجاهلها. واعترفت الكاتبة بأهمية جغرافية السودان وموقعه بالنسبة لافريقيا والشرق الاوسط، مشيرة إلى ان ذلك الوضع يتطلب من واشنطن إجراء عملية توازن دقيقة ويخضعها الى تنافس مصالح السياسة الخارجية وذهبت الى ان ذلك من شأنه ان يضع السودان أمام خيارين، الارتباط البناء في اطار رابط افريقي شرق اوسطي أو اختيار المواجهة التي يترتب عليها، حسب الكاتبة عواقب وخيمة تقود إلى عدم الاستقرار في المنطقة.
ويبدو استخدام القوة الناعمة في إطار التقسيم الجيوسياسي الجديد ظاهرا في سياسة واشنطن تجاه الخرطوم وتجاه دول أخرى في المنطقة من خلال العمل على توظيف القوى المجتمعية داخل هذه الدول لفرض تغييرات في بنية مؤسسات الإدارة والحكم. ولجأت خلال الفترة الماضية إلى دعم منظمات مجتمع مدني عديدة من خلال صناديق ما يسمى بدعم الديمقراطية، إلا أن أوجه ذلك الدعم بدت منتقاة بشكل لافت، ولم تشمل العديد من الكيانات المجتمعية ما يفسر السعي إلى تطبيق أجندة بعينها في إطار مشروع التقسيم الذي تتبناه واشنطن بحسبان ارتباط مصالحها بكيانات متحمسة لمشاريع دعم الديمقراطية الامريكية.
وتبدو توجهات الفكر الإستراتيجي الامريكي التي دعت الى استمرار التفرد الامريكي وبسط السيطرة على العالم تحت مسمى (قرن امريكي جديد) غير ذات جدوى منذ أن وجدت من يروج لذلك التيار مثال الكاتبان الامريكيان بمجلة فورن افيرس (Foreign Affairs) وولفورت وبروكس عندما أكدا أن في استطاعة الولايات المتحدة التنقل من قوة إلى قوة اكبر دون خوف عليها من عواقب الاحادية القطبية او العجز حال صدام غير متوقع أو مرتقب، إذ أن الولايات المتحدة تملك ما يلزم لأي مواجهة. بيد أن تلك النظرية أخذت في الإخفاق ربما منذ نهاية العقد الاول لهذه الألفية عندما بدأ نجم مجموعة دول (البركس) في الظهور بقوة لتهيمن على المسرح السياسي والاقتصادي العالمي. وانحصرت نظرت واشنطن في تلك الفترة في إطار انعدام قوة موازية قادرة على التعامل مع ادارة قضايا التوازن الدولي الذي تقف الولايات المتحدة على رأسه.
وعلى الضفة الأخرى يقف فريق المطالبات بسياسة معتدلة دون مغالاة، وتبدو على هذا الصعيد مطلوبات الذين يتبنون هذا التيار أكثر واقعية، إذ تقاس لغة المصالح بشكل متوازن. ومن دعاة هذا الفريق من كتاب مجلة فورن افيرس مايكل ماندلبوم (Michael Mandelpaum)، وهو يؤكد أن المطلوب تحقيقه هو السلام والديموقراطية وحرية الأسواق، إلا أنه يعترف ان قوة الولايات المتحدة في هذا المنحى في تناقص ويطالبها بضرورة دعم المؤسسات الدولية وتقوية السياسة السليمة، ويشاطره الرأي مايكل هيرش كاتب بذات المجلة بقوله «علينا ان ندرك ان سبب وجود الولايات المتحدة كأمة هو زيادة الحرية في العالم. وأن مسألة توسيع الإمبراطورية هي وصفة أكيدة الإخفاق».
وعلى قرار فصل جنوب السودان، أشارت سياسات وضعتها مراكز دراسات شبه رسمية إلى دعم انفصال اقليم دارفور، وفي إطار ذات السياق برزت مراكز دراسات غربية وامريكية عديدة تروج لعمليات تفتيت واسعة النطاق للدول العربية على أسس مذهبية وطائفية، وفي مقال نشرته مجلة (فورين بوليسي) بعنوان (الانفصال قد يكون مفيداً)، يرى باراج خانا الباحث في مؤسسة (امريكا الجديدة) أن ولادة دولة جنوب السودان يمثل بداية الترتيبات لولادة دول جديدة في الشرق الأوسط على أسس إثنية ومذهبية. واقترح الباحث حزمة من الآليات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية لضمان استمرار هذه الدول واستقرارها، منبهاً إلى ضرورة المزج بين المرونة والقسوة في تحقيق طموحات شعوب المنطقة، ويرى أن البديل الوحيد لحالة ما أسماه (الصراع الدائم) داخل هذه الدول هو منح الشعوب حق تقرير المصير مهما كانت التكلفة. ودعا الدول الغربية إلى تقديم الدعم للهيئات الإقليمية والجماعات الانفصالية لتأهيلها حتى تكون قادرة على إنجاز عملية إعادة التقسيم. وتوقع خان، الذي يعتبر من أبرز الذين ينادون بإعادة تقسيم الشرق الأوسط، في كتابه (كيف تدير العالم) الذي أصدره في العام 2011م أن يبلغ عدد الدول المستقلة بعد انفصالها إلى (300) دولة بدلاً من (200) دولة، حالياً على غرار ما حدث لجنوب السودان. ما يعني أن سياسة تفتيت الدول هو إستراتيجية واشنطن خلال السنوات القادمة ولسان حال تلك الإستراتيجية يهمس جهراً بالسعي إلى انفصال إقليم دارفور على قرار ما حدث في الجنوب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق